اعتادا على اللقاء بين الحين والآخر ,عندما يسمح بذلك وقتهما .لم يكونا صديقين من النوع العادي الشائع, كان لهما توصيف خاص لما يجمعهما, مجرد رؤيتهما معا كانت تثير استغراب الكثيرين ممن حولهم …متناقضان في كل شيء و عنيدان حتى الثمالة ولكن تهذيباً راقياً و قدرة غريبة على الاستماع بإنصات أكسبتهما احتراماً و أعطت لعلاقتهما ديمومة…..يلتقيان ليمارسا هوايتهما المفضلة في المجادلة واستعراض عضلاتهما الثقافية …يتحدثان في كل شيء وعن كل شيء وقلما ينتهي اللقاء بابتسامة( غير الأصفر منها)… لكنهما صديقان مازالا.
في ذلك المساء تواعدا و التقيا على فنجان من القهوة على طاولة في مقهى شعبي يطل على شارع مزدحم …. شهران مرا منذ آخر لقاء وهناك الكثير من المستجدات من النوع الذي يحتمل الكثير من المبارزة في الآراء… متسلحين بكل ما تيسر من العنفوان والعناد تصافحا وجلسا وبدأ النقاش……..
سؤال عن الحال والأحوال ثم استعراض للعناوين ونقاش هادئ ما لبث أن تطور , وكما هي العادة , إلى استخدام الأيدي و الأصابع لشرح المواقف و ابراز النقاط وتجسيد القصص…. بعد نصف ساعة ، كان الأول يتناول فنجان القهوة من أمامه ليرتشف آخر قطرات السائل الأسود من دون أن يحاول مداراة ابتسامة عريضة ارتسمت على كامل الوجه . لما لا وقد كان النزال هذه المرة في صالحه ، فقد نجح بتسجيل الكثير من النقاط وإن لم يفز بالضربة القاضية إلا أنه وبلا شك قد حقق ماجاء من أجله … عيناه ترقبان صاحبه لاصابته بمزيد من الاحراج والحنق.
مرت دقيقتان من الصمت الثقيل ، كان الثاني يمج سيجارته بعصبية حاول اخفائها بدون أن يوفق . تحول بنظره نحو الشارع , مراقباً السيارات التي تمر وفي رأسه تعتمل الأسئلة : كيف حصل ذلك ؟؟ لا يمكنني القبول بأن ينتهي لقاءنا على هذا النحو… لا بد أن أفعل شيئاً ، أن أقول شيئاً، مازال في جعبتي سهم ما في مكان ما …..اهااااا.
فورا بادره بالقول : على كل حديثنا يشبه ما قيل في أثر الفراشة؟
الأول بسرعة وبثقة العارف : بصراحة لم أقرأ بعد ديوان محمود درويش … يقولون أنه جدير بالاهتمام … لكني لم أفهم ماذا تقصد.
الثاني سعيد باستعادة زمام المبادرة الأخيرة : لا لم أقصد ديوان درويش ، بل أعني نظرية «أثر الفراشة».
الأول وقد فوجئ بما سمع , محاولا التركيز فقد أعد نفسه للرحيل ولم يتوقع هجمة مرتدة في آخر لحظة , ومع أنه سبق وسمع بذلك المصطلح في مكان ما الا أنه سأله بارتباك : وما هذا؟
الثاني : إنه مصطلح مجازي، يستخدم للتعبير عن مفهوم الاعتماد الحساس والمهم للحدث على الظروف الأولى المحيطة له.
الأول بدهشة: حسناً و كيف ترى أن حديثنا يشبه هذا الذي تقول ؟
الثاني : بقليل من الإسقاط سترى أننا لو اخترنا مكانا أكثر هدوءاً ، ولو أنني جلست في الجهة الأبعد عن ضجة الشارع لكنت أكثر تركيزا وبالتالي ضحداً لأفكارك …..
الأول مستهزئاً : حقاً إنك غريب …يا صاحبي كفاك مكابرة ، إن تغيير المكان لن ينفعك بشئ وفي أي مكان وأي ظرف آخر ستكون النتيجة واحدة … لديك خطأ في المنهج يا حبيبي وليست المشكلة في التركيز.
الثاني و قد حزم امره على توجيه الضربة القاضية : لا لا …أنت لم تفهم قصدي … اسمع سأوضح لك بالدليل القاطع كيف أن تغييرا طفيفا ً في الشروط البدائية لأي فعل قد يؤدي الى تغيير هائل في النتيجة النهائية….. راقب يدي,,,,,,.( كان بعلم أن ماسيفعله خطير وذو عواقب لكن ماتعرض له اليوم من اذلال فكري كان بمنظوره قاتلا ولا يمكن تجاوزه) ومن دون سابق انذار قام الثاني بتلويح يده في الهواء ليصفع الأول صفعة تلاطمت لها ملامح وجهه فاختلطت ببعضها.
هال الأول ماحصل وتسمر كل شيء فيه حتى الدم في العروق..
الثاني : أرأيت …. لو أني أوقفت يدي قبل سنتيمتر واحد من وجهك ولم أصفعك ، لما كنت الان غاضباُ مني و بودك لو تستطيع قتلي ، ولكنا مازلنا أصدقاء…. أتفهم الآن كيف أن تغييراً طفيفا في شروط بداية حدث ما قد تؤدي الى نتيجة مغايرة تماماً , اليوم كلانا يا صاحبي خاسر…
لم ينتظره ليجيب، جمع اشياءه , قام وانسل في زحام الشارع و لم يسمع أحد أنهما التقيا بعد ذلك .